top of page
Search

الهوية الآثورية الحديثة: صناعة استعمارية وتمردات مسلّحة ضد الدولة العراقية

  • Writer: حيازة وحمل
    حيازة وحمل
  • Mar 16
  • 14 min read

تنويه: لست كاتبًا محترفًا، بل أنا شخص مهتم بتقديم الحقائق التاريخية وفقًا للمصادر الموثوقة. جميع المعلومات الواردة في هذا المقال تم جمعها من مصادر معترف بها، ولا يتجاوز ما قمت به نطاق البحث. هدفي هو تقديم رؤية موضوعية ومبنية على الحقائق لمساعدة القراء في فهم التاريخ بشكل صحيح، وليس كتابة أكاديمية. إذا كان هناك أي تساؤلات أو شكوك حول بعض النقاط، أدعو الجميع إلى الرجوع إلى المصادر الأصلية للتحقق والمزيد من التوضيح.



(من سلسلة: حركات التمرد ضد الدولة العراقية الحديثة)



تمهيد: لا يمكن فهم التمرد دون العودة إلى جذوره


لا يمكن تناول حركات التمرد بمعزل عن خلفياتها الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية. ومن الخطأ اختزال أي صدام عسكري أو سياسي في مشهد نهائي معزول، دون العودة إلى ما سبقه من بناء فكري وتحضير ميداني.


ولهذا فإن التمرد الآثوري في العراق، ومجزرة سميل التي تبعته، لا يمكن فهمهما على أنهما لحظة واحدة من لحظات الاحتكاك الطائفي أو الأمني، بل هما نتيجة مسار طويل من التصعيد المتراكم، بدأ منذ أن بدأت صناعة “الهوية الآشورية الحديثة” خارج إطار الواقع العراقي، وتم تصديرها إلى الداخل عبر أدوات دينية، وعسكرية، واستعمارية.


الهوية، في هذا السياق، لم تكن مجرّد انتماء ثقافي أو ديني، بل مشروعًا سياسيًا مقصودًا، صُمّم في الخارج، ليُستخدم كورقة ضغط، ثم تحوّل لاحقًا إلى أداة للتمرد والانفصال تحت شعار “القضية القومية”.



من الهرطقة إلى العزلة: الجذور البيزنطية لطائفة النساطرة


لرصد النشأة الحقيقية للآثوريين المعاصرين، لا بد من العودة إلى القرن الخامس الميلادي، حين ظهر نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية، الذي رفض عقيدة الاتحاد الكامل بين اللاهوت والناسوت في المسيح، وهو ما اعتُبر في مجمع أفسس عام 431م هرطقة كبرى. تم عزله ونفيه، وأُدين مذهبه رسميًا من قبل الكنيسة البيزنطية.


لكن تعاليمه لم تمت، بل لاقت صدى لدى جماعات سريانية في شرق الإمبراطورية، خصوصًا في الرها ونصيبين، حيث كانت التقاليد اللاهوتية الشرقية تميل إلى الفصل بين الطبيعتين. ومع تصاعد الاضطهاد العقائدي من قبل بيزنطة، بدأت هذه الجماعات بالانسحاب إلى مناطق أبعد شرقًا، تحت الحكم الفارسي الساساني، الذي رحّب بهم كقوة دينية مناوئة لعدوّه البيزنطي.


وهكذا، تشكّلت تدريجيًا كنيسة المشرق، المعروفة لاحقًا بـ”الكنيسة النسطورية”، والتي اتخذت من قطيسفون مقرًا لها، وامتد نشاطها لاحقًا إلى خراسان، الهند، الصين، وآسيا الوسطى. أصبحت النسطورية مذهبًا مسيحيًا مستقلاً، لكنه ظل معزولًا عن الكنائس الكبرى، وموصومًا بالهرطقة من قبل الأرثوذكس والكاثوليك على السواء.


في ظل الدولة العباسية، تم التسامح مع النسطوريين بصفتهم “أهل ذمة”، وكانوا نشطين في الترجمة والطب، لكنهم ظلوا بلا طموح سياسي، ولا هوية قومية مستقلة. ومع سقوط الخلافة وضعف المراكز الحضرية، تراجع وجودهم في المدن، وتمركزوا أكثر في الجبال، حتى أصبحوا بحلول القرن الخامس عشر طائفة قروية متفرقة، تتمركز في هكّاري وأورمية، تحت زعامة بطريركية وراثية ضعيفة، تعيش على هامش التاريخ، بلا اتصال بالماضي الآشوري الذي سيُخترع لاحقًا.



جذور الجماعة النسطورية قبل اختراع القومية الآثورية


الآثوريون، الذين كانوا يُعرفون تاريخيًا باسم النساطرة، هم طائفة مسيحية مشرقيّة تعود إلى أتباع نسطوريوس، وقد استقرّوا لقرون في مناطق هكّاري وطور عبدين وأورمية، ضمن بيئة جبلية مغلقة على أطراف الدولة العثمانية. لم تكن لهم لغة خاصة خارج السريانية الكنسية، ولا نظام اقتصادي مستقل، ولا مشروع سياسي ظاهر.


عاشوا ضمن نظام “الملل” العثماني، تحت سلطة بطريركهم الوراثي في قوجانس، دون أي دور سياسي يُذكر، ولا طموح قومي، بل بوصفهم طائفة هامشية تخضع للحماية أو التهميش حسب التقلبات المحلية. وكانت علاقتهم بالعشائر الكردية المجاورة غالبًا مضطربة، إذ دخلوا في صراعات محلية على الموارد، ولم يتمكنوا من فرض أي نوع من السيادة أو التوسع، بل كانوا دائمًا في موقع الدفاع أو الحماية بالوكالة.


وفي حين كان الأرمن، مثلًا، قد بدأوا بتشكيل حركات قومية مبكرة في أواخر القرن التاسع عشر، فإن النساطرة ظلوا خارج هذا الحراك، لا يمتلكون لا الخطاب، ولا التنظيم، ولا حتى الوعي القومي. كل ما كان يربطهم هو البنية الكنسية، والارتباط الوراثي بسلالة شمعون، والعيش في عزلة قروية بعيدًا عن مراكز التأثير.



من “النساطرة” إلى “الآشوريين”: بداية التسمية وتحوّل الهوية


حتى مطلع القرن التاسع عشر، لم يكن للنساطرة أي انتماء قومي معلن، ولا خطاب يتجاوز الطائفة والكنيسة. لكن هذا تغيّر مع دخول البعثات التبشيرية الغربية، وتحديدًا البروتستانتية الأمريكية، إلى مناطقهم في أورمية وهكّاري.


بدأت هذه البعثات بتقديم النساطرة في تقاريرها إلى واشنطن وبوسطن باعتبارهم “أحفاد الآشوريين القدماء”، وصُوّروا كأنهم “شعبٌ عريق ضائع في الجبال” يحتاج إلى من يوقظه ويعيد ربطه بماضيه. كانت هذه الرواية جذّابة للخيال الغربي البروتستانتي، الذي رأى في بعثته إلى الشرق “خلاصًا لشعب توراتي منسيّ”.


جرى تغيير التسمية في الوثائق الرسمية والكتب المدرسية من Nestorians إلى Assyrians، رغم أن النساطرة أنفسهم لم يستخدموا هذا الاسم آنذاك. وسرعان ما انتشرت التسمية الجديدة، وبدأت تُزرع في وعي الجيل الجديد من خلال التعليم والإعلام الكنسي الجديد.


لم يكن هذا التحوّل تعبيرًا عن هوية داخلية ناضجة، بل عملية إعادة تشكيل خارجية لهوية ميتافيزيقية مفترضة، بنيت على وهم التواصل مع حضارة منقرضة، من دون وجود أي صلة لغوية أو عرقية أو حتى دينية بين النساطرة المعاصرين والآشوريين القدماء.



اختراع الامتداد الآشوري: من طائفة منسيّة إلى “أمة” مصنّعة


حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن أحد في العالم يستخدم تعبير “الآشوريين المعاصرين” للإشارة إلى النساطرة. لا هم عرّفوا أنفسهم بهذه التسمية، ولا الدولة العثمانية استخدمتها، ولا حتى جيرانهم من الأرمن والكرد والعرب.


لكن مع وصول البعثات التبشيرية البروتستانتية الأمريكية، وتحديدًا بعثة مجلس المفوّضين للبعثات الخارجية، بدأت حملة إعادة تشكيل لهوية النساطرة. لم يكن التحوّل من “النساطرة” إلى “الآشوريين” تطورًا ذاتيًا، بل مشروعًا خارجيًا بامتياز، بُني على خيال ديني وتصور استعماري.


استُخدمت اللغة السريانية كجسر وهمي مع الأكادية، وتم تسويق هؤلاء كـ”أحفاد نينوى”، رغم انعدام أي رابط فعلي. بل حتى المزاعم الجينية المعاصرة لا تستند إلى دراسات محايدة، بل إلى روايات تموّلها جهات مرتبطة باللوبي الآثوري نفسه.


أُعيد تصوير الأزياء التقليدية لتشبه نقوش المحاربين الآشوريين، وطُبعت كتب مدرسية تصف الآثوريين بأنهم “ورثة الإمبراطورية”، وظهرت رموز جديدة مثل “العلم الآشوري الحديث”، و”الطير المجنّح”، و”نجم شمش”، وهي رموز مقتبسة من فنون وثنية قديمة، لا علاقة لها بالمسيحية ولا بالكنيسة الشرقية.


هكذا، تحوّلت طائفة كنسية مغلقة، إلى ما يشبه “قومية مخبرية” تُزرع بالتعليم والرموز والشعارات، وتُصدَّر لاحقًا باعتبارها حقيقة تاريخية، بينما هي في جوهرها مشروع تمويهي وُلد في كواليس الاستشراق والتبشير.



من التنصير إلى التوظيف العسكري: الآثوريون تحت جناح بريطانيا


مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، وجدت بريطانيا في الجماعة الآثورية المُعاد تشكيلها حليفًا مثاليًا يخدم أهدافها الاستعمارية في العراق وسوريا وتركيا.

بعد تهجير النساطرة من هكّاري بسبب تحالفهم مع الروس، واستقرارهم في شمال العراق، قامت بريطانيا بإنشاء تشكيل عسكري خاص لهم تحت اسم “قوة الليفي” (Iraq Levies)، والتي شكّل الآثوريون نواتها الأساسية، إلى جانب مجندين من أقليات أخرى.


لم يكن الغرض من هذه القوة مجرد الأمن المحلي، بل كانت تُستخدم لحماية المطارات والمعسكرات ومراكز الاتصالات البريطانية، وتعمل بوصفها ذراعًا عسكرية مرتبطة مباشرة بالانتداب البريطاني، لا بالحكومة العراقية الناشئة.


في هذا السياق، بدأت القيادة الدينية الآثورية، بزعامة البطريرك مار إيشاي شمعون، بالتحرك سياسيًا. أُرسلت مذكرات إلى لندن، وجنيف، تطالب بـ:

• إنشاء كيان مستقل شمال العراق،

• حكم ذاتي للآثوريين،

• اعتراف دولي،

• تسليح خاص،

• حماية بريطانية دائمة.


تجاوز الخطاب حدود “حقوق الأقليات”، إلى تشكيل ما يشبه “الدويلة داخل الدولة”.

الآثوريون كانوا يتسلحون ويتدرّبون تحت إشراف بريطاني، ويرفضون الانخراط في الجيش العراقي، ويمتنعون عن المشاركة في مؤسسات الدولة، وكل ذلك بوصفهم “أمة منفصلة” في طور التأسيس.


وهكذا، تحوّلت الهوية المصطنعة إلى مشروع سياسي مسلح، مرتبط بالخارج، ومتصادم مع سيادة الدولة العراقية الحديثة.



كيف وصل الآثوريون إلى العراق؟ التهجير لا “الامتداد”


رغم أن بعض الجماعات النسطورية كانت تقطن قريبًا من الحدود الشمالية للعراق، إلا أن الوجود الآثوري داخل الدولة العراقية الحديثة لم يكن امتدادًا تاريخيًا أو استقرارًا طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة لحروب القرن العشرين، وتحالفات فاشلة مع القوى الأجنبية.


في عام 1915، وأثناء الحرب العالمية الأولى، تحالف النساطرة في هكّاري مع القوات الروسية ضد الدولة العثمانية، ظنًا منهم أن الروس سيساعدونهم في إقامة كيان مستقل، أو على الأقل في كسب حماية دائمة.


لكن مع انسحاب الروس بعد الثورة البلشفية عام 1917، وجد النساطرة أنفسهم مكشوفين، وتعرضوا لحملة انتقامية من قبل القوات العثمانية والعشائر الكردية، أدت إلى مقتل الآلاف، ونزوح عشرات الآلاف إلى الأراضي التي كانت تحت السيطرة البريطانية في العراق.


لم يدخلوا العراق بوصفهم مكوّنًا محليًا، بل كلاجئين سياسيين وعسكريين، استُخدموا لاحقًا كأداة في خدمة الانتداب. تم إسكانهم في معسكرات مؤقتة في الحبانية وبغداد وزاخو وسهل نينوى، ثم جرى توطينهم بشكل متقطّع، دون منحهم جنسية مباشرة، بل بصفتهم تحت “الحماية البريطانية”.


وهكذا، لم يكن وجودهم في العراق استمرارًا لهوية وطنية، بل فصلًا طارئًا من تاريخ تهجيري، تحوّل إلى استثمار سياسي لاحقًا، واستُخدم كأساس لخطاب “الحق التاريخي” في الأرض التي لم يسكنوها من قبل.



ما بعد الاستقلال: بوادر التمرد السياسي والعسكري


مع إعلان استقلال العراق عام 1932 وانضمامه إلى عصبة الأمم، بدأت الدولة العراقية الحديثة أولى خطواتها لترسيخ السيادة الوطنية، وتحجيم بقايا النفوذ البريطاني، خصوصًا من خلال تفكيك الكيانات المسلحة التي أُنشئت في فترة الاحتلال، ومنها “قوة الليفي” التي كانت تضم نسبة كبيرة من المجندين الآثوريين.


إلا أن القيادة الآثورية لم تنظر إلى هذا الاستقلال كفرصة للاندماج، بل بوصفه تهديدًا مباشرًا لمصالحها الخاصة ومشروعها الانفصالي الآخذ بالتشكل. فبدلًا من إعلان الولاء للدولة الجديدة، تصاعدت النبرة السياسية داخل الأوساط الآثورية، وانتقل الخطاب من المطالبة بالحماية إلى المطالبة العلنية بالحكم الذاتي، وحق تقرير المصير، والحماية الدولية.


البطريرك إيشاي شمعون، ومن معه من زعماء العشائر والقادة السابقين في الليفي، كثّفوا مراسلاتهم إلى عصبة الأمم، والسلطات البريطانية، وحتى السلطات الفرنسية في سوريا، مطالبين بتدويل القضية الآثورية، ومنحهم منطقة حكم ذاتي شمال العراق، تكون خارج سلطة الدولة المركزية، وتخضع لحماية دولية على غرار ما حصل في مناطق أخرى من العالم بعد الحرب العالمية الأولى.


وعلى الأرض، كان السلوك يعكس هذا التوجه الانفصالي:

• رفض عدد من المجندين الآثوريين تسليم أسلحتهم أو الانضمام إلى الجيش العراقي.

• تشكّلت مجموعات مسلحة غير رسمية بقيادة محلية، وبدأت تُعيد التمركز قرب الحدود.

• أُنشئت معسكرات في مناطق مثل فيشخابور ودهوك، خارج السيطرة الفعلية لبغداد.

• حصلت محاولات واضحة للعبور إلى سوريا، الخاضعة للانتداب الفرنسي، لإعادة التنظيم والتسليح من هناك.

• صدرت خطابات علنية من بعض القيادات تصف الدولة العراقية بأنها “دولة عربية إسلامية لا تمثل الأمة الآشورية”، وتؤكد على ضرورة الاستقلال.


تجاوز الأمر حدود المطالب، وأخذ طابعًا عملياتيًا صريحًا: تشكيل وحدات قتالية صغيرة، إجراء تدريبات ميدانية، التواصل مع الضباط السابقين في الليفي، ونقل السلاح عبر المناطق النائية.

تحولت مناطق تواجدهم إلى جيوب شبه مستقلة، لا تعترف بسلطة الدولة، ولا تشارك في مؤسساتها، بل تتعامل معها بوصفها “كيانًا دخيلًا”.


وهنا، لم يعد الأمر مجرد “احتجاج سياسي”، بل حالة تمرد فعلية متكاملة الأركان، لها قيادة دينية–عسكرية، وأهداف سياسية، وتمويل خارجي غير مباشر، وتموضع جغرافي على الحدود، وتواصل مع قوى أجنبية.


وهكذا، صار التعامل مع هذه الحالة ضرورة أمنية عاجلة بالنسبة للدولة العراقية، لا سيما في ظل تصاعد الاستفزازات، والاحتكاكات المتكررة مع الجيش والشرطة، وتهديد السلم الداخلي في منطقة شديدة الحساسية.



مجزرة سميل: الاصطدام الدموي ونهاية المشروع المسلح


في صيف عام 1933، كانت بوادر التمرد الآثوري قد بلغت ذروتها، سواء على المستوى السياسي أو العسكري. ومع تزايد التحركات المسلحة، ورفض تفكيك قوة الليفي، وتشكّل معسكرات شبه مستقلة، شعرت الحكومة العراقية أن الوضع على وشك الانفجار، خصوصًا مع محاولات متكررة للعبور إلى سوريا وإعادة تنظيم التمرد بدعم فرنسي محتمل.


في هذا السياق، قاد البطريرك إيشاي شمعون وفدًا إلى جنيف في يونيو 1933، وقدم مذكرة إلى عصبة الأمم يطالب فيها بـ”حماية دولية” للآثوريين، واعتبارهم “شعبًا ذا قضية قومية”، وهو ما اعتبرته الحكومة العراقية تحديًا مباشرًا لسيادتها.


في المقابل، بدأت مجاميع آثورية مسلحة بالتحرك من معسكرات قريبة من زاخو باتجاه الحدود السورية، حيث دارت اشتباكات مع قوات الحدود العراقية. أُجبر المقاتلون على العودة، لكن هذه العملية فتحت الباب أمام صدام مفتوح، خصوصًا بعد أن استمرت هذه الجماعات في رفض الانخراط بأي مؤسسة رسمية.


في أوائل أغسطس 1933، وبأوامر مباشرة من رئيس أركان الجيش، بكر صدقي، أُطلق العنان لعملية عسكرية في منطقة سميل وقرى محيطة بها في دهوك، هدفها “تأديب العناصر المتمردة ومنع الانفصال بالقوة”.

لكن العملية تحوّلت سريعًا إلى حملة دامية، حيث ارتكبت القوات العراقية مجازر بحق سكان مدنيين في أكثر من ثلاثين قرية، وأُعدم رجال وشباب ميدانيًا، ودُمرت منازل وكنائس.


الأرقام المتداولة تتراوح بين 300 إلى 1000 قتيل، معظمهم من المدنيين، بحسب تقارير متعددة منها:

• تقرير المندوب البريطاني في العراق (Stafford, 1935)

• تقارير لجنة تقصي الحقائق العراقية لعام 1933

• شهادات لاحقة جُمعت في الشتات الآثوري (Joseph, 2000)


لكن رغم فظاعة المجزرة، فإن النتائج السياسية كانت حاسمة:

• نُفي البطريرك إيشاي شمعون إلى قبرص ثم إلى أمريكا.

• تم تفكيك المعسكرات شبه العسكرية.

• أُعيد دمج ما تبقى من العناصر الآثورية في الحياة المدنية، تحت إشراف مباشر من الحكومة.

• أُغلق ملف التدويل، وفقدت الجماعة دعم بريطانيا التي تخلّت عنهم لأسباب سياسية.


ومن وجهة نظر الدولة العراقية، كانت العملية – رغم ما فيها من تجاوزات – بمثابة إنهاء حاسم لتمرد مسلح مدعوم خارجيًا، هدد وحدة البلاد في لحظة تأسيسية خطرة.


أما من وجهة نظر الآثوريين، فقد أصبحت سميل نقطة مركزية في خطاب المظلومية، تُستثمر منذ ذلك الحين في بناء السردية القومية، وتُقدَّم كدليل على أن “الآشوريين” لا يستطيعون العيش في ظل دولة لا تعترف بخصوصيتهم القومية.


لكن الحقيقة أن ما سبق المجزرة من تحركات سياسية وميدانية هو ما أوقع الجماعة في هذا المصير، وأن الطريق إلى سميل لم يُعبد بالاضطهاد، بل بالتمرد والارتهان لقوى استعمارية.



تشويه الرموز: حين تُختزل الهوية في زي ووشم وأنف معقوف


من أكثر الأساليب إثارة للسخرية في بناء الخطاب القومي الآثوري الحديث هو محاولته تقديم أدلة “شكلية” على الانتماء للدولة الآشورية القديمة. إذ لم يكتفِ هذا الخطاب بالادعاء التاريخي، بل لجأ إلى محاولة خلق “تشابه بصري” بين الآثوريين المعاصرين وسكان نينوى القديمة، عبر تقليد النقوش، والأزياء، والرموز، وحتى ملامح الوجه.


أُعيد رسم الزي التقليدي الجبلي لبعض النساطرة ليتوافق مع ملابس الجنود الآشوريين في النقوش، وأُضيفت له حواشٍ مزخرفة وسيوف قصيرة، وشارات مُتقنة تُشبه ما كان يحمله محاربو الإمبراطورية الآشورية.

انتشرت هذه الصورة عبر مطبوعات، طوابع بريد، منشورات تعليمية، وأعلام، ثم تطورت لاحقًا إلى زي قومي رسمي في المهجر، يُلبس في المؤتمرات والمناسبات السياسية بوصفه “دليلًا بصريًا على النسب الحضاري”.


بل وصل الأمر إلى ترويج فكرة أن ملامح الآثوريين الشكلية – كالأنف الحاد أو الطول أو كثافة شعر الرأس والوجه – تتطابق مع تماثيل نينوى، وكأن علم الإنسان تحول إلى حقل فراسة، يُقيم الهُوية من انحناءة الحاجب أو تقوّس الأنف.

هذه المقارنات لم تأتِ من دراسات أكاديمية، بل من بروشورات إعلامية ومقارنات مرسومة، هدفها تسويق صورة شعب “مُصوّر في الحجر”، لم يتغيّر ولم يختلط ولم يندمج.


ولم يتوقف التضليل عند الصورة، بل امتد إلى الادعاءات الجينية.

ظهرت في العقود الأخيرة دراسات مموّلة من جمعيات آشورية في المهجر، تزعم أن نتائج تحاليل الحمض النووي تُثبت “الامتداد السلالي من الآشوريين القدماء”.

لكن هذه الدراسات لا تُنشر في مجلات علمية مُحكّمة، ولا تخضع لمراجعة مستقلة، بل تُستعرض في مؤتمرات دعائية، وتُروّج عبر وسائل إعلام مرتبطة بنفس الدوائر السياسية.


في الواقع، لا يمكن لأي دراسة جينية أن تُثبت الانتماء إلى شعب بائد منذ أكثر من 2500 عام، دون سجل سكاني متّصل، أو عينات مؤكدة من رفات ذلك العصر. كل ما يمكن استخلاصه هو نسب تقريبي لمنطقة جغرافية، لا هوية سياسية أو قومية.


هكذا تحوّلت الهوية إلى مسرح بصري: زي، وسيف خشبي، وعلم ملوّن، وشارات مأخوذة من رموز وثنية، ومظهر خارجي يُروّج على أنه “دليل وراثة”، وكل ذلك يُقدَّم بجدية في المحافل الدولية كأنما هو خطاب علم، بينما هو في الحقيقة مجرد بناء رمزي هش، مبني على وهم الصور، لا قوة الحقائق.



أوهام الاستعادة: خطاب الأرض المفقودة والحق التاريخي


مع نهاية التمرد الآثوري المسلح داخل العراق، لم يتوقّف المشروع القومي، بل أعاد تموضعه بشكل ناعم، عبر خطاب جديد يتحدّث عن “استعادة الأرض التاريخية”، لا على أساس الانفصال الفوري، بل من خلال المطالبة “الحقوقية” و”التاريخية”.


بدأت الجمعيات الآثورية في الشتات، لا سيما في أمريكا وأوروبا، بترويج فكرة أن مناطق معينة من العراق – مثل تلكيف، بعشيقة، بحزاني، القوش، وحتى مناطق في زاخو والموصل – هي “أراضٍ آشورية مسلوبة”، يجب استعادتها عاجلًا أم آجلًا.

ولا تستند هذه المطالب إلى سند قانوني، ولا إلى وثائق ملكية، ولا إلى أي قاعدة ديموغرافية حقيقية، بل إلى زعم رمزي مفاده أن هذه المناطق كانت جزءًا من الإمبراطورية الآشورية القديمة، وبالتالي، فإن أحفاد تلك الحضارة – كما يزعمون – لهم الحق فيها!


بعبارة أخرى، تُبنى الدعوى السياسية على خريطة عمرها 2600 عام، لا على الواقع السكاني والسياسي المعاصر.

وتمتد هذه المزاعم إلى خطاب دولي، يُروّج لمشاريع “إقليم آشوري مستقل” في سهل نينوى، مع تعويضات، وعودة للاجئين، واعتراف عالمي.


والمفارقة أن هذا الخطاب يتجاهل تمامًا أن النساطرة نفسهم لم يسكنوا تلك المناطق تاريخيًا، بل جاؤوا إليها لاجئين بعد 1915، وتم توطينهم فيها بمساعدة الانتداب البريطاني.

أي أن المطالبة باستعادة تلك القرى تتم باسم “شعب لم يكن هناك”، وبحجة انتماء مزعوم لحضارة لم يثبت أي امتداد فعلي لها.


وهكذا، تحوّل التمرد العسكري إلى تمرد رمزي – ديموغرافي، قائم على وهم “الحق التاريخي”، وسردية الخريطة، وليس على الوجود الواقعي أو التاريخ القريب.


السردية الأمريكية: خطاب الحماية وازدواجية المظلومية


منذ احتلال العراق عام 2003، تكرّر على ألسنة عدد من السياسيين الأمريكيين، وداخل تقارير لجان الكونغرس، حديث مطوّل عن “اضطهاد المسيحيين في العراق”، وتحديدًا الآثوريين، بوصفهم “من أقدم الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط”.

لكن هذه السردية لم تكن حيادية، ولا دقيقة من الناحية التاريخية أو الواقعية، بل كانت جزءًا من خطاب سياسي وظيفي.


في أكثر من مناسبة، تبنّى نواب في الكونغرس ومراكز بحثية أمريكية، خصوصًا تلك المرتبطة باللوبي الآثوري، نغمة تُحمّل الاحتلال الأمريكي “المسؤولية غير المقصودة” عن تفكك المجتمعات المسيحية، مع التركيز على الجماعة الآثورية دون سواها.


من أبرز هذه الأصوات:

• عضو الكونغرس فرانك وولف، الذي دعا إلى إنشاء منطقة آمنة للمسيحيين في سهل نينوى.

مايك بنس (نائب الرئيس الأمريكي لاحقًا)، الذي خصّص دعمًا ماليًا لمنظمات مسيحية آشورية باعتبارها “ضحايا الإبادة”.


لكن هذا الخطاب كان انتقائيًا:

• تجاهل أن الاحتلال دمّر الدولة العراقية بأكملها، لا المسيحيين وحدهم.

• غضّ الطرف عن أن الجماعة الآثورية نفسها طالبت علنًا بـ”إقليم خاص” في سهل نينوى، وقدّمت نفسها للمحتل الأمريكي كشريك محتمل.

• تجاهل السياق التاريخي للتمرد الآثوري ضد الدولة العراقية الحديثة، وقدّمهم كضحايا دائمين بلا خلفية سياسية.


وبالتالي، فإن هذه السردية ليست دفاعًا عن جماعة دينية، بل جزء من تبييض وجه الاحتلال الأمريكي، وتبرير تدخله عبر خطاب “حماية الأقليات”، وهو خطاب استُخدم مرارًا في العراق وسوريا ولبنان من قبل قوى غربية، بواجهات إنسانية، وأهداف سياسية.



الشتات واللوبي: تدويل القضية وإعادة بناء الرواية


بعد فشل المشروع القومي الآثوري داخل العراق، واندثار الطموح المسلح والسياسي بعد مجزرة سميل ونفي البطريرك، انتقل النشاط الآثوري إلى الشتات الغربي، خصوصًا في الولايات المتحدة، وأستراليا، والسويد، حيث أعيد بناء الحركة القومية على أسس إعلامية وسياسية جديدة، أكثر نُعومة وأوسع نفوذًا.


في أمريكا تحديدًا، تشكّل اللوبي الآثوري على نمط الجاليات المؤثرة سياسيًا، مستفيدًا من النظام الفيدرالي وحرية التنظيم والتمويل. أنشئت منظمات مثل:

Assyrian American National Federation

Assyrian Policy Institute

• لجان إعلامية في كاليفورنيا وشيكاغو وديترويت.


أعادت هذه المؤسسات صياغة الخطاب الآثوري ليتلاءم مع الحساسية الغربية تجاه “حقوق الإنسان” و”الأقليات المضطهدة”، وقدّمت القضية الآثورية بوصفها:

• قضية شعب أصيل مهدد بالإبادة،

• ذو جذور تاريخية متصلة بحضارة نينوى،

• بحاجة إلى حماية دولية وإقليم خاص في سهل نينوى.


واستُخدمت أدوات ضغط مثل:

• مخاطبة الكونغرس،

• تنظيم المؤتمرات،

• إطلاق حملات تمويل وإعلام،

• دعم مرشحين محليين يتبنّون الخطاب القومي الآثوري.


كل هذا لم يُبنَ على الواقع العراقي، بل على رواية رمزية أعيد إنتاجها، تستند إلى المظلومية، والانفصال الرمزي، والخريطة القديمة. وهكذا، صار الشتات مركز القرار، وصارت الأرض جزءًا من سردية تبعد آلاف الأميال عن جمهورها الأساسي.



الارتباط البريطاني والفرنسي: من الليفي إلى قواعد في سوريا


لم يكن المشروع الآثوري المسلح ليأخذ شكله السياسي والعسكري لولا الرعاية المباشرة التي وفّرتها بريطانيا في العراق، وفرنسا في سوريا. فقد عملت القوى الاستعمارية الكبرى على توظيف الآثوريين كأقلية مسيحية قابلة للتسليح والانضباط، ويمكن استخدامها كورقة ضغط إقليمية ضمن مشهد ما بعد العثمانيين.


في العراق – بريطانيا والليفي:


أنشأت بريطانيا “قوة الليفي” عام 1919 لتكون أداة عسكرية محلية تخدم قواعدها الجوية والمصالح الاقتصادية. شكّل الآثوريون العصب الرئيسي لهذه القوة، وحظوا بامتيازات في التسليح والتدريب، مع إعفاءات من الضرائب والتجنيد الإجباري في الجيش العراقي.


القوة لم تكن خاضعة للحكومة العراقية، بل تابعة للقيادة البريطانية مباشرة.

وبذلك، أصبح الآثوريون يمتلكون – بحكم الواقع – جيشًا خاصًا، لا يُحاسب أمام الدولة، ولا يشارك في بنيتها.


في سوريا – فرنسا والحدود الشمالية:


عندما بدأت الدولة العراقية بمساعي تفكيك قوة الليفي ودمجها في الجيش الوطني، حاولت القيادة الآثورية الانتقال بالمشروع الانفصالي إلى الأراضي السورية الخاضعة آنذاك للانتداب الفرنسي.


خلال عامي 1932–1933، سعت وفود من الآثوريين إلى إقامة معسكرات تدريب وتسليح في الحسكة والقامشلي، بدعم فرنسي مباشر، وبهدف العودة إلى شمال العراق لتنفيذ تمرد واسع النطاق، أو على الأقل فرض منطقة آمنة بحماية فرنسية.


لكن المشروع فشل لعدة أسباب:

• رفض فرنسا الدخول في صدام مباشر مع العراق عشية استقلاله.

• خشية المجتمع الدولي من اتهام فرنسا بتغذية انفصال طائفي.

• تصاعد حدة الأزمة داخل العراق قبل أن تكتمل الترتيبات في سوريا.


إلا أن هذا الفصل يؤكد حقيقة أن المشروع الآثوري لم يكن داخليًا، بل كان مرتهنًا بالكامل للقوى الاستعمارية، ويتنقل من مظلة إلى أخرى حسب المعطيات.



الخاتمة: قومية خارج التاريخ، وتمرد خارج الجغرافيا


ما يُسمى اليوم بـ”القومية الآشورية الحديثة” لم تولد من نضال شعب، ولا من تطور اجتماعي طبيعي، بل من مشروع خارجي – ديني واستعماري – أُسّس على أنقاض طائفة دينية كانت معزولة، وأُلبست هوية لم تكن لها.


هذا المشروع بُني على:

• قراءة مفبركة للتاريخ،

• رموز مستنسخة من نقوش حجرية،

• روايات جينية لا سند لها،

• وتوظيف سياسي دائم من قبل القوى الأجنبية.


وعندما فشل التمرد المسلح في الداخل، انتقل المشروع إلى الخارج، حيث أعاد إنتاج نفسه عبر أدوات الشتات: الإعلام، اللوبي، الخطاب الحقوقي، وخريطة خيالية تسبح في رمزية نينوى لا في واقع العراق.


إن ما حدث في سميل لم يكن مجرّد مأساة طائفية، بل انفجارٌ لقنبلة سياسية زُرعت قبل عقود، وكان لا بد للدولة العراقية الفتيّة أن تواجهه، في لحظة كانت السيادة على المحك، والحدود مهددة، والاستقلال هشًا.


وحين يُعاد اليوم تسويق هذا المشروع على أنه “قضية قومية”، فإن الحقيقة التي يجب ألا تُنسى هي أن:

• لا الآثوريون هم امتداد للآشوريين،

• ولا المشروع قائم على مظلومية بريئة،

• ولا الدعوة للاستقلال تجري من داخل العراق،

بل من خارج الجغرافيا، وبعيدًا عن الواقع، في مهجر يعيد رسم التاريخ كما يشتهي، لا كما كان.



المراجع:

1. Stafford, The Tragedy of the Assyrians, 1935

2. Joseph, The Modern Assyrians of the Middle East, 2000

3. British National Archives – CO 730, CO 732

4. Gaunt, Massacres, Resistance, Protectors, 2006

5. Teule, The Christian Heritage of Iraq, 2009

6. Iraqi Parliamentary Records, 1932–1933

7. Baumer, The Church of the East, 2006

8. Assyrian Policy Institute, publications 2017–2022

9. Congressional Hearing Records (U.S.), 2005–2010



 
 
 

Comentarios


bottom of page