top of page
Search

الدولة التي سرقت الثورة: من الرميثة إلى البلاط

  • Writer: حيازة وحمل
    حيازة وحمل
  • Mar 20
  • 18 min read

بحث في ثورة العشرين وكيف صادرتها السلطة الجديدة


حول هذا البحث


هذا البحث ليس استذكارًا تقليديًا لثورة العشرين، ولا احتفاءً إنشائيًا بها، بل محاولة لكشف ما جرى: كيف خُدعت، وكيف صودرت، وكيف استُخدمت لتجميل نظامٍ لم ينبثق منها، بل تأسس على أنقاضها.

انطلق البحث من فرضية مركزية مفادها أن الدولة العراقية الحديثة لم تكن امتدادًا طبيعيًا للثورة، بل مشروعًا بريطانيًا بواجهة محلية اختارت بعناية من تُسلّمهم السلطة، وأقصت من حملوا السلاح، ومن أطلقوا الفتوى، ومن دفنوا أبناءهم تحت نيران الاحتلال.


يعتمد هذا العمل على مصادر تاريخية متعددة، عربية وأجنبية، وعلى وثائق أرشيفية من وزارة المستعمرات البريطانية، ويأخذ موقفًا تحليليًا ناقدًا من داخل الثورة، لا من فوقها.

ولأننا نؤمن أن الصدق التاريخي أهم من المجاملة الوطنية، فإن هذا النص لا يوزع الشكر بالتساوي، ولا يساوي بين المتفرج والثائر، ولا بين العرش والبندقية.



التمهيد: العراق قبل أن ينفجر


كان العراق سنة 1920 جرحًا مفتوحًا لم يلتئم بعد.


قوة احتلال بريطانية جاثمة على مدن البلاد، إدارات مؤقتة يحكمها ضباط إنكليز، رجال دين صامتون في المدن السنية، ومرجعيات ثائرة في الجنوب، وقبائل منهكة خرجت لتوّها من احتلال الدولة العثمانية لتجد نفسها الآن تحت أقدام إمبراطورية أخرى.


لم تكن هناك دولة، بل سجن كبير اسمه “الانتداب”.


وكانت بريطانيا تعتقد أن بوسعها إدارة هذا السجن عبر “المستشارين”، و”المفتشين السياسيين”، و”المندوب السامي”، دون أن تضطر إلى الاستماع لصوت الأرض.

كانت تنظر إلى الجنوب كصحراء متمردة، وإلى الفرات كأرض يجب أن تُقهر، وإلى الحوزة كخطر فقهي يمكن احتواؤه.


لكن ما لم تفهمه لندن، أن هذه الأرض ليست مجرّد تربة، بل تربة تشربت الدماء في كربلاء، وتورّث النار كما تورّث الكوفة الفقه.

وأن الريف الذي استُنزف في الحروب، لا يمكن تهجينه باللوائح، ولا إخضاعه بالبندقية فقط.


في الجنوب، لم تكن بريطانيا تحكم، بل كانت تمشي فوق الرماد…

وفي تموز 1920، اشتعل الرماد.



المقدمة: من الثورة إلى الدولة… وخيانة لم تنتهِ


لم تكن ثورة العشرين لحظة شرف في ذاكرة وطنية جامعة، بل كانت صرخة الشيعة وحدهم، حين سكت غيرهم، وثاروا حين استراح سواهم، وقاتلوا حين راوغ من جلس على التل ينتظر الغنيمة.


هذه الثورة التي حاربت بريطانيا بكل ما تملكه من دم وفتوى وبندقية، لم تُكافَأ بدولة، بل دُفنت تحت أقدام من لم يطلقوا رصاصة، ولم يحملوا ثائرًا، بل حملوا العرش، ولبسوا القَبّعة، وأقسموا يمين الولاء لتاج لم يُكسر.


الدولة التي جاءت بعد الثورة لم تكن ابنها، بل قاتلها.

وكان الملك الذي جلس على كرسي الحكم، لا وارثًا لدم الشهداء، بل وريثًا للمندوب السامي البريطاني.

والنخب التي دخلت الوزارات لم تكن من خيّم تحت القصف، بل من كتب التقارير ووقّع المعاهدات.


هذا البحث لا يدّعي الموضوعية، لأنه لا يريدها.

ولا يتوسّل الإنصاف الشكلي، لأنه يعرف من الظالم ومن المظلوم.

بل هو وثيقة انحياز صريح لثوار الجنوب، للمرجعية، للعشائر التي نزفت، وللقرى التي سُحقت ولم تُذكر، وللحقيقة التي وُئدت يوم وُضع التاج على جراح الفرات.


وهنا، لا نروي التاريخ كما يريدونه في كتبهم، بل كما حدث في التراب…

حيث ما تزال الجثث شاهدة، والخرائب ناطقة، والحقيقة معلّقة على أعمدة الكهرباء التي صُلبت عليها الثورة.



الفصل الأول: لحظة الانفجار – كيف اندلعت ثورة العشرين؟


لم تبدأ ثورة العشرين من مَشورة سياسي، ولا من بيان منسّق في نادٍ حزبي، بل بدأت من الفطرة: فلاح لم يعد يحتمل الضريبة، ومرجعٌ شمَّ رائحة الاحتلال في وجوه المندوبين.

كانت البلاد قد خرجت لتوّها من أنفاس دولة منهكة: الدولة العثمانية التي أسقطها السقوط الذاتي للمركز السني في إسطنبول، لا من فعل العراقيين (1).

وحين دخل الإنكليز، دخلوا من الجنوب، ومرّوا على وجوه الحوزة والعشيرة والسلاح.

لكنهم ظنّوا أن الريف يُدار كالعاصمة… فقرّروا أن يُحكم العراق بلا دولة، عبر مستشار سياسي، ومفتش مالي، وجيش احتلال دائم (2).


الشرارة: ضريبة الاحتلال وعُجرفة ضبّاطه


الشرارة الأولى لم تكن سياسية، بل يومية.

بدأت حين فرضت الإدارة البريطانية ضرائب خانقة على الفلاحين، وهددت شيوخ العشائر، ونكثت بوعود العفو، وبدأت تتصرف كأن العراق ملك لبريطانيا، لا أرضًا لها أهلها (3).

كان الضابط الإنكليزي يُخاطب الشيخ كخادم، ويُلزم الفلاح بدفع الأموال تحت طائلة الجلد أو الحجز، وكان الجندي البريطاني يقتحم البيت بحثًا عن بندقية أو قنينة بارود (4).


الفتوى: حين نطقت النجف… سقط صمت العراق


في منتصف تموز، أطلق المرجع الأعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي فتوى الجهاد، وهي لم تكن دعوة للثأر، بل تكليف شرعي بقتال العدو، قالت فيها المرجعية:


“مطالبةُ الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم في هذا السبيل الاجتماع والاتحاد، وعلى المسلمين أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة، وأن لا يسكتوا عن الظلم.” (5)


وهنا، لم يعد هنالك متّسع للانتظار.

أهل الجنوب كانوا ينتظرون صوتًا فقط، وما إن جاء من الحوزة، حتى أُطلقت البنادق، وأُحرقت خطوط السكك الحديدية، وانهارت المراكز البريطانية واحدًا تلو الآخر (6).


من الرميثة انطلقت… وفي الفرات اشتعلت


بدأت الشرارة من الرميثة، حين طُلب من الشيخ شعلان أبو الجون تسليم سلاحه، فرفض، فأرسلوا له ضابطًا إنكليزيًا، فأسَره، فهجمت القوات البريطانية على عشيرته، فثارت (7).

ومنها تحركت قبائل الفرات، والتفّت حول المرجعية، وتحولت الثورة من حادثة عشائرية إلى تمرّد مسلح واسع، يُقاتل فيه الشيعي بعقيدته، والعشائري بشرفه، والفلاح بكرامته (8).


لم يكن هناك حزب ولا علم ولا نشيد.

كان هناك تراب يُداس… ودم يجب أن يُردّ.



الهوامش داخل المتن:


(1) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992، صـ 265.

(2) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، بغداد: مكتبة المثنى، 1955، صـ 119–120.

(3) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، بغداد: المطبعة العصرية، 1953، صـ 31–33.

(4) المصدر نفسه، صـ 34.

(5) الفتوى منقولة بنصها في: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 14.

(6) عباس العزاوي، المصدر السابق، صـ 124.

(7) سعيد صادق الفحّام، ثورة العشرين كما عشتها، بغداد: دار الحرية، 1970، صـ 42–43.

(8) حنا بطاطو، المصدر السابق، صـ 269–270.



الفصل الثاني: من حمل السلاح؟ – الجغرافيا المذهبية للثورة


إذا أردنا أن نعرف مَن حمل السلاح في ثورة العشرين، فلا نحتاج إلى تخمين، ولا إلى توازنات تلفزيونية، بل إلى قراءة بسيطة لميادين القتال، وأسماء الشهداء، وهوية القادة، وخارطة النيران.


الذين قاتلوا فعليًا، والذين دفنوا أبناءهم في القرى والبوادي، والذين احترقت نخيلهم ودُمرت بيوتهم، كانوا من الشيعة، لا بالافتراض، بل بالتوثيق.


الجنوب يغلي… والوسط يقاتل


بدأت الثورة من الرميثة، وامتدت إلى الشامية، والديوانية، والهندية، والحلة، والكفل، والنجف، وكربلاء، وهي كلها مدن وأرياف ذات أغلبية شيعية واضحة (1).

تحركت العشائر: آل فتلة، وآل عبس، وآل بدير، وخزعل، والجبور، والأقرع، وآل عيسى، وغيرها من القبائل التي لبّت نداء المرجعية، لا نداء وزارة، ولا طموح حزب (2).


في كل هذه المناطق، كانت المعارك حقيقية، والقتلى بالعشرات، والمراكز البريطانية تُحرق، والقطارات تُفجَّر، وأسماء الثوار تُكتب على جدران السجون.


النجف وكربلاء: الدم والدين


في النجف، مركز القرار الفقهي، كان العلماء يرسلون الرسائل للقبائل، يحرّضونهم على الجهاد، ويمنحون الشرعية الكاملة لكل طلقة تُطلق ضد الاحتلال (3).

وفي كربلاء، كانت التعبئة تجري من فوق المنبر، والحوزات تحولت إلى غرف تخطيط، وصدرت الفتاوى تباعًا: القتال فرض، والتخاذل خيانة.


وقد أُطلقت أولى الفتاوى الجماعية الموقّعة من كبار علماء النجف وكربلاء والكاظمية في صيف 1920، وأكدت أن مقاومة البريطانيين واجب شرعي عيني (4).


الشيعة قاتلوا وحدهم… قبل أن تُنسب الثورة للجميع


لم تكن بغداد ساحة قتال.

لم تخرج الموصل ولا سامراء ولا الرمادي ولا الفلوجة، ولا شاركت إداريًا ولا ميدانيًا.

السنّة، كأغلبية مدن، كانوا إما صامتين، أو متفرجين، أو محاصَرين بالمواقف الرمادية، إلا أفرادًا قلائل (5).


لكن بعد أن وضعت الثورة أوزارها، وخرجت بريطانيا بخسائر كبيرة، بدأ الخطاب الرسمي يختلق بطولة وطنية شاملة، ويُعيد رسم صورة “ثورة عراقية جامعة”، بينما الحقيقة أن من ثار هم الشيعة، ومن راقب هم غيرهم، ومن كتب التاريخ لاحقًا أراد تسويته.



الهوامش داخل المتن:


(1) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، صـ 127–130.

(2) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، صـ 42–45.

(3) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 272–274.

(4) فاضل حسين، الفتاوى السياسية في العراق المعاصر، بغداد: دار القادسية، 1987، صـ 61–63.

(5) بطاطو، المصدر السابق، صـ 275.



الفصل الثالث: من قاد الثورة؟ – العلماء والعشائر لا الضباط


في ثورة العشرين، لم يكن هناك ضباط يُخططون من الثكنات، ولا سياسيون يقودون من الفنادق، بل كان في مقدمة الثورة العالم الديني وشيخ العشيرة، والمجاهد الفقير الذي لا يعرف من السلطة سوى عصا الجابي.


القيادة كانت من الأرض، لا من الورق.

ومن الحوزة، لا من البعثات العسكرية.


المرجعية الدينية: غرفة القيادة المركزية


كانت المرجعية الشيعية في النجف وكربلاء هي المحرّك الأول للثورة.

أصدر السيد محمد تقي الشيرازي فتواه الشهيرة في تموز 1920، معلنًا أن مقاومة الاحتلال واجبة شرعًا، وأن الحكم يجب أن يكون “بيد أبناء البلاد” (1).

وقد تلت هذه الفتوى بيانات يومية وتحركات سياسية وتنظيمية واسعة من قبل وكلاء المرجعية في الفرات الأوسط، ومنهم:

• السيد محمد رضا الغريفي

• السيد مهدي الخالصي

• السيد محسن الحكيم (وكان شابًا مشاركًا في التنظيمات آنذاك)

• الشيخ فتح الله الأصفهاني

• الشيخ عبد الكريم الجزائري

• السيد نصر الله الحائري (2)


كانت المرجعية تُشرف على سير العمليات، وتصدر بيانات التحريض، وترعى التحكيم بين العشائر، بل وتجمع الأموال والسلاح.


العشائر: الجسد القتالي للثورة


في الميدان، لم تكن هنالك سرايا حزبية ولا كتائب مدربة، بل رجال العشائر الذين قاتلوا ببنادق ورثوها من العثمانيين، أو صنعوها في بيوتهم.

القبائل التي قاتلت فعليًا تشمل:

• آل فتلة

• آل عبس

• آل بدير

• الخزاعل

• بني حسن

• الأقرع

• آل شبل

• الجبور

• البو صالح

• آل عيسى

• آل زياد

• آل غانم

• آل حمد (3)


وكان التنسيق بين العشائر يتم غالبًا برعاية المرجعية، وتُجمع المجالس في الحسينيات أو مضائف الشيوخ، ويجري تقسيم الأدوار بوضوح: من يُهاجم، من يُطوّق، من يُغلق الطرق.


غياب كامل للضباط والوجهاء السياسيين


لم يكن في هذه الثورة ضباط عراقيون سابقون يُشرفون على القتال، ولا سياسيون مدنيون يُفاوضون أو يُفاوضون.

نخبة بغداد السنية كانت مستغرقة في المشهد الإداري مع البريطانيين، وبعضها بدأ مبكرًا بالتفكير في “تشكيل حكومة عراقية” تحت الانتداب (4).


وهكذا، كانت الثورة بلا نخبة، وبلا ممثلين في بغداد، وبلا خطاب عالمي.

ولذلك تمكّنت بريطانيا لاحقًا من تجاهلها في مؤتمر القاهرة، لأنها ببساطة لم تكن تملك ممثلًا يتكلم باسمها في العاصمة.



الهوامش داخل المتن:


(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 14–16.

(2) حسين الصدر، دور العلماء في مقاومة الاحتلال البريطاني، بغداد، 1995، صـ 94–103.

(3) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، صـ 133–140.

(4) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 276–278.



الفصل الرابع: من غاب عن الميدان؟ – السنّة بين الحياد والتردد


ليس من الإنصاف، ولا من الأمانة التاريخية، أن تُروى ثورة العشرين وكأنها كانت انتفاضة “وطنية شاملة” شارك فيها كل مكوّن، ودفَع الجميعُ ضريبتها.

الحقيقة التي تخشاها السرديات الرسمية هي أن الساحة السنّية كانت غائبة عن الثورة… غائبة بالسلاح، وبالموقف، وبالرمز.


مدن صامتة… ومجالس متفرجة


لم تشهد بغداد ولا الموصل ولا الرمادي ولا الفلوجة ولا سامراء حراكًا ثوريًا يُقارن بما جرى في الفرات الأوسط والجنوب (1).

في تلك المناطق، كان السلاح ساكنًا، والمواقف خجولة، وكأن ما يجري في الرميثة والشامية معركة في بلد آخر.

حتى العلماء السنّة لم يصدر منهم بيان واحد يوازي فتوى الشيرازي، أو يحرض على الاحتلال، أو يُحرّك الجماهير.


وحتى في بغداد، التي كانت مقر الحاكم البريطاني، لم تخرج مظاهرة واحدة تهتف بسقوط الاحتلال أثناء اشتعال الثورة، بل كان بعض وجهائها يتفاوض سرًا مع الإنكليز على مستقبل العراق، لا على مقاومة المحتل (2).


هل شارك بعض الأفراد؟ نعم… ولكن


في الرواية الرسمية، يتم التركيز على “أسماء سنّية” يُقال إنها شاركت، وعلى رأسهم:

الشيخ ضاري المحمود

عبد الرحمن الكيلاني

نوري السعيد

جعفر العسكري


لكن هؤلاء إما لم يشاركوا في الثورة أصلًا، أو لم يحملوا السلاح، أو كانت أدوارهم رمزية متأخرة، وبعضها ذات طابع شخصي أو ثأري لا علاقة له بالثورة كجبهة شاملة (3).


ضاري المحمود – مثلًا – قَتل الكولونيل لجمن في واقعة فردية، لا تنسيق فيها مع المرجعية ولا التحام مع الثوار، بل كانت حادثة محدودة أُضفيت عليها لاحقًا هالة سياسية لا أساس لها (4).

أما الكيلاني، فكان على تواصل مع البريطانيين، وتم تعيينه لاحقًا أول رئيس وزراء للعراق، أي أنه لم يكن ثائرًا بل رجل مرحلة ما بعد قمع الثورة.


النتيجة: ثورة مذهبية لا يعترفون بها… ودولة طائفية بنوها على جثتها


حين انتهت الثورة، لم تُشكر الحوزة، ولم تُكرَّم العشائر، ولم تُدرَج أسماء الشهداء في الدستور.

لكن ما جرى هو إعادة بناء رواية “ثورة وطنية جامعة” لتبرير مشروع تنصيب فيصل، وخلق صورة مصطنعة عن وحدة الصف، بينما الواقع أن السلاح كان شيعيًا، والخذلان رسميًا، والتاريخ كُتب بخط بريطانيا.



الهوامش داخل المتن:


(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، صـ 51–55.

(2) فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، بيروت: دار الساقي، 1995، صـ 73–74.

(3) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 279–281.

(4) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، صـ 142–145.



الفصل الخامس: محاولة فاشلة لاختلاق رموز – أسطورة الشيخ ضاري


حين أرادت الرواية الرسمية أن “تُعادل” حضور الشيعة في ثورة العشرين، ولم تجد في الميدان من يُقابلهم، لجأت إلى التضخيم…

فرفعت من شأن حادثة فردية، وجعلت من رجل واحد “رمزًا سنّيًا للثورة”، رغم أن الواقع يُكذّب هذا التجميل.


الواقعة كما هي: قتل لجمن لا يقود ثورة


في 12 آب 1920، قام الشيخ ضاري المحمود، زعيم زوبع من شمر، بقتل الكولونيل لجمن، أحد مسؤولي الإدارة البريطانية في منطقة خان ضاري.

لكن الرواية الكاملة تُظهر أن الأمر لم يكن جزءًا من الثورة العامة، بل حادثة ثأرية شخصية، جاء فيها لجمن إلى مضيف الشيخ، وأهانه علنًا، فغدر به ضاري وقتله (1).


لا يوجد أي دليل موثق على تنسيق الشيخ ضاري مع قادة الثورة في الفرات، ولا مع وكلاء المرجعية، ولا أن الحادثة كانت جزءًا من خطة أوسع (2).

بل إن البريطانيين لم يعتبروا ما حدث “تمردًا”، بل جريمة ضد موظف حكومي، تبعتها مطاردة لعشيرة الشيخ، انتهت بانكسارها.


بعد القتل… لم يكن هناك قتال


بعد اغتيال لجمن، لم يُسجل للشيخ ضاري ولا لعشيرته أي عمل عسكري منظم ضد القوات البريطانية.

لم تُقطع خطوط إمداد، لم تُهاجَم مراكز، لم تُعلَن الحرب.

بل فرّ الضاري بعد ذلك إلى سوريا، ومات هناك لاحقًا، دون أن يُشارك في أي قتال لاحق داخل العراق (3).


صناعة الرمز… عند الحاجة


ورغم كل ما سبق، تحوّلت حادثة الشيخ ضاري إلى “أسطورة وطنية” لاحقًا، وصار يُقدَّم في المناهج والبرامج الرسمية كرمز سنّي للثورة.

ليس لأنه قاد ثورة، بل لأن الدولة احتاجت إلى سنّي تُعلّق عليه التوازن الرمزي، ولو من حادثة معزولة، فردية، بلا امتداد.


ولذلك، حين نُقارن بين حجم الدماء التي سُفكت في الشامية والديوانية والهندية، وبين حادثة اغتيال واحدة، ندرك تمامًا أن “رمزية الشيخ ضاري” ليست من الواقع… بل من الحاجة السياسية.



الهوامش داخل المتن:


(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، صـ 59–61.

(2) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، صـ 150–153.

(3) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 283–284.



الفصل السادس: السقوط بالنار – قمع الثورة بالطائرات والغرامات


ما لم تستطع بريطانيا تحقيقه بالمندوبين والموظفين والبيانات، حققته بالنار.

فحين اتّسعت رقعة الثورة وبدأت المراكز البريطانية تسقط واحدًا تلو الآخر، لم تجد لندن وسيلة للحسم سوى بالقوة الجوية، في أول تجربة إمبراطورية لقمع ثورة شعبية بالطائرات.


الطائرات أولًا… ثم الجيش


ابتداءً من منتصف آب 1920، بدأت بريطانيا باستخدام الطيران لقصف قرى الجنوب والفرات الأوسط، وكانت الهجمات تُنفَّذ دون إنذار، وتستهدف الأسواق، والمضايف، وبيوت الشيوخ، ومقار العبّارة على الأنهار (1).

وكانت الطائرات تُلقي القنابل، ثم تعود في اليوم التالي لتقصف الجنائز، أو من يهرعون لإنقاذ الجرحى.

وقد استخدم سلاح الجو البريطاني أكثر من 14 طائرة في قصف مناطق الرميثة، الشامية، الهندية، الكفل، الديوانية، الكاظمية، وغيرها (2).


وفي إحدى البرقيات من القيادة البريطانية في العراق إلى وزارة الطيران في لندن، جاء نص صريح:


“The natives seem to respond only to punitive air action. Political means insufficient.”

“السكان الأصليون لا يستجيبون إلا للإجراء العقابي الجوي. الوسائل السياسية غير كافية.” (3)


الزحف البري… والانتقام المالي


مع استمرار القصف، بدأت القوات البرية البريطانية الزحف باتجاه المناطق الثائرة، وتم استرجاع المدن قرية قرية، ببطء، ومع كل دخول، كانت تُفرض غرامات جماعية على العشائر.

• بعض القرى فُرضت عليها غرامات نقدية ثقيلة.

• بعضها فُرضت عليها كميات من التمر والحنطة.

• وبعض العشائر أُجبرت على تسليم رجالها وأسلحتها، ودُفعت غرامات على كل بندقية موجودة (4).


في الرميثة وحدها، قُدّرت الخسائر البشرية بعشرات القتلى، وتضررت عشرات الدور، وتم اقتلاع النخيل، وإحراق الحقول.

في الديوانية، تم اعتقال العشرات، ونُقلوا إلى بغداد في عربات مغلقة، بينما كانت القرى تُجرف حولهم.


قمع العلماء… ومصادرة القرار الديني


لم يكن الميدان وحده مستهدفًا، بل حتى الحوزة.

فقد فرضت السلطات البريطانية الإقامة الجبرية على السيد محمد تقي الشيرازي، وراقبت تحركات وكلاء المرجعية، واعتقلت بعضهم.

وقد توفي الشيرازي في آب 1920، في ظروف غامضة – قيل إنها مرضية، ولكن كثيرين اعتبروها وفاة مشبوهة جاءت في لحظة حاسمة (5).


كانت ثورة… وأُخمدت كما تُخمد الحرائق


لم تنتصر الثورة، لكنها لم تُهزم شرفًا.

الذين حملوا السلاح لم يسلّموه، بل سُحِقوا بالنار، وقُمعوا في الزرع والنسل، ودُفنت جثثهم مع وصاياهم.


لكن حين عادت بريطانيا لتكتب تقرير النصر، لم تذكر الطائرات…

بل قالت: إن العراق بات مستعدًا لحكم ذاته.



الهوامش داخل المتن:


(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، صـ 66–69.

(2) عباس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين، جـ8، صـ 157–160.

(3) India Office Records, CO 730/3, September 1920.

(4) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 19.

(5) حسين الصدر، دور العلماء في مقاومة الاحتلال البريطاني، صـ 110–112.



الفصل السابع: دخول فيصل – العرش فوق الرماد


بينما كانت القرى في الجنوب تلملم ركامها تحت القصف، وتدفن شهداءها في صمت، كانت بريطانيا تكتب مستقبل العراق من فوق دماء الذين قاتلوا لأجله، لا بهم.

ففي آذار 1921، اجتمع رجال الإمبراطورية في مؤتمر القاهرة، برئاسة ونستون تشرشل، لبحث كيفية حكم العراق بعد أن خمد صوت البندقية، وهدأت جبهات الفرات… لا لأن الثورة انتهت من ذاتها، بل لأن الطائرات والأسلاك الشائكة والخذلان العام أنهكت جسدها (1).


وما خرج به المؤتمر لم يكن حلًا عراقيًا، بل تدبيرًا استعماريًا بغطاء عربي هش: تنصيب ملك على العراق، لا من بين رجاله، بل من خارجه.


فيصل… ملك بلا معركة


الاختيار وقع على فيصل بن الحسين، نجل الشريف حسين، قائد “الثورة العربية الكبرى”، والذي خسر عرش سوريا بعد أن طردته فرنسا في تموز 1920، إثر معركة ميسلون، التي قُتل فيها وزير دفاعه يوسف العظمة، فيما غادر هو دمشق دون قتال (2).

كان فيصل ملكًا بلا مملكة، وحليفًا بلا أرض، فجاءت بريطانيا لتعويضه بعرش لم يُقاتل من أجله، في بلد لم تطأ قدمه أرضه سابقًا، فوق جثث ثوار لم يعرف أسماءهم.


لماذا اختارت بريطانيا فيصل؟


لم يكن اختيار فيصل صدفة، بل لأنه كان “الحل المثالي من منظور بريطاني صرف”.

وقد اجتمعت فيه خمس صفات جعلته مرشحًا فريدًا:

1. لم يكن من العراق، ولا يمتلك قاعدة عشائرية أو طائفية، مما يجعله معتمدًا كليًا على البريطانيين للبقاء.

2. هاشمي وابن الشريف حسين، ويمكن تسويقه إسلاميًا وعربيًا دون أن يُشكّل خطرًا على الإنكليز.

3. خرج مهزومًا من دمشق، وبالتالي كان هشًّا سياسيًا، وسهل التوجيه.

4. لم تثق بريطانيا بالسياسيين المحليين، الذين كانوا إما متورطين في الصراعات، أو أصحاب طموحات لا يمكن ضبطها.

5. أبدى مرونة تامة وقبولًا بالشروط البريطانية، بما فيها معاهدة الانتداب (3).


في برقية داخلية من تشرشل إلى كوكس، جاء:


“Feisal’s lack of local ties is precisely why he is most suitable. He shall rely on us and not on tribal or sectarian backing.”

“إن عدم وجود صلات محلية لفيصل هو بالضبط ما يجعله الأنسب. سيعتمد علينا، لا على دعم قبلي أو طائفي.” (4)


وثائق بريطانية: فيصل مشروع فوقي، والممثلون العراقيون ديكور سياسي


الوثائق البريطانية تكشف أن قرار تنصيب فيصل لم يُتخذ بالتشاور، بل كان جاهزًا قبل مؤتمر القاهرة.

في برقية سرية من وزارة المستعمرات:


“The native notables present are not empowered by their people. They are selected for appearance of consultation, not actual authority.”

“الشخصيات المحلية الحاضرة ليست مفوّضة من شعبها. تم اختيارهم لإعطاء انطباع بالتشاور، لا لامتلاكهم سلطة حقيقية.” (5)


المندوب السامي يقرّر… والعراقيون يتفرجون


في صيف 1921، أُجري استفتاء صوري، تحت إشراف المندوب السامي برسي كوكس، تم فيه “استفتاء الشعب” على تنصيب فيصل ملكًا.

كانت النتيجة محسومة، لأن اللجان التي أشرفت على الاستفتاء كانت بريطانية، والنخب السنّية المحلية المنفّذة كانت جزءًا من المشروع لا من الثورة (6).

وهكذا، في 23 آب 1921، تُوّج فيصل الأول ملكًا على العراق، في حفل رسمي ببغداد… بينما كانت قبور الشهداء لا تزال رطبة في الرميثة والشامية.


لا دم، لا سلاح، لا شرعية ثورية


الملك فيصل لم يكن جزءًا من الثورة، لا قياديًا ولا رمزيًا:

• لم يشارك في القتال.

• لم يُصدر موقفًا داعمًا للثوار.

• لم يزر الجنوب بعد الثورة، لا تكريمًا ولا اعتذارًا.

• لم يُعرف عنه أي خطاب يذكر تضحيات الشيعة أو دور المرجعية.


لقد بدأ فيصل حكمه على أنقاض الثورة لا ببركتها، ورفع علم الدولة فوق القبر، لا فوق الكتف.



الهوامش داخل المتن:


(1) India Office Records، CO 730/3، مراسلات مؤتمر القاهرة، آذار 1921.

(2) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الثورة العراقية الكبرى (1920)، صـ 78–81.

(3) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 295–297.

(4) IOR, CO 730/3, April 1921.

(5) IOR, CO 730/3, March 1921.

(6) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 17–19.



الفصل الثامن: من حكم العراق؟ – الدولة لأبناء الإدارات لا أبناء البنادق


حين انتهت الثورة، لم تُشكَّل حكومة الثوار، ولا جرى استدعاء شيوخ العشائر أو وكلاء المرجعية لوضع أسس الدولة الجديدة، بل جرت الأمور كما أرادتها بريطانيا:

السلطة تُسلَّم لمن لم يُقاتل، والحكم يُمنَح لمن جلس في الظل، والعرش يُرصَّع بوجوه الإدارات لا بوجوه البنادق.


الحكومة الأولى: إعادة تدوير الإداريين


بُعيد تنصيب فيصل، كلّفت بريطانيا عبد الرحمن الكيلاني بتشكيل أول حكومة عراقية.

كان الكيلاني رجلاً محافظًا، قريبًا من البلاط، ولم يُعرف عنه أنه ساند الثورة، بل كان من أوائل من تواصل مع البريطانيين لتنظيم “المرحلة الانتقالية” بعد انتهاء التمرد، كما وصفوه (1).


ضمت الحكومة الأولى:

نوري السعيد

جعفر العسكري

عبد المحسن السعدون

ياسين الهاشمي


جميعهم كانوا إما ضباطًا سابقين في الجيش العثماني، أو وجوهًا إدارية بارزة في النظام السابق، وتم اختيارهم لا لتمثيل الثورة، بل لخبرتهم في الحكم، ولقربهم من فكر الدولة المركزية، ولقبولهم بشروط الانتداب (2).


الشيعة خارج الصورة


لم يُمنَح للشيعة موقع حقيقي في هذه الحكومة.

لم يُستدعَ أحد من قادة الثورة، لا من رجال الدين ولا من شيوخ العشائر.

والوزارات التي أُعطيت للشيعة – إن وُجدت – كانت رمزية، أو ضمن أسماء غير فاعلة في قرار الدولة (3).


حتى بعد ذلك، استمرّ هذا النمط في الحكومات اللاحقة:

مقاعد سنّية فاعلة، ووجود شيعي هامشي، في نظام أُسس على قاعدة: شارك في الحكم من لم يشارك في القتال.


صمت عن الدماء… وتواطؤ على النسيان


لم يُصدر الملك فيصل أي بيان يعترف بالثوار، ولا أي قرار يعوّض ذوي الشهداء.

لم تُشكَّل لجنة للتحقيق في قصف الطائرات البريطانية، ولا جرى تعويض قرية واحدة من قرى الجنوب التي جُرّفت بالنار.

بل على العكس، تم تقديم الثوار كمتمرّدين، والمراجع كمحرّضين، وتم تضييق الحوزة، ومراقبة الفتاوى، وتوجيه الإعلام الرسمي لإعادة كتابة الثورة بشكل يُناسب صورة الدولة الناشئة (4).


من قاتل دُفن… ومن ساوم حَكَم


تأسست الدولة العراقية الحديثة بلا تمثيل حقيقي لأصحاب الدم، ولا لمراجعهم، ولا لعشائرهم، بل بأدوات الإدارة، وعقيدة الدولة المركزية الطائفية، ورجال المكاتب لا رجال السواتر.


وهكذا، تَمثّلَ شعار المرحلة لا في بناء وطن، بل في دفن الثورة سياسيًا… والاعتراف بها شعبيًا فقط حين تخدم صورة الملك.



الهوامش داخل المتن:


(1) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 22–24.

(2) فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، صـ 78–80.

(3) بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية، جـ1، صـ 300–302.

(4) حسين الصدر، دور العلماء في مقاومة الاحتلال البريطاني، صـ 113–114.



الفصل التاسع: تسويق الثورة بعد خذلانها – التزوير الرمزي الرسمي


بعد أن صادرت الدولة ثورة العشرين ميدانيًا، وركبت نتائجها السياسيّة، جاء الدور على ما هو أخطر: مصادرتها رمزيًا في الذاكرة الجماعية.

فالدولة التي خذلت الثوار حين احتاجوها، عادت لاحقًا لتستثمر دماءهم في الخُطب والمناهج والاحتفالات الرسمية، لكن بعد أن أعادت كتابة التاريخ بطريقة تلائم النظام الذي بُني على نقيض الثورة.


من التمرد إلى “العرس الوطني”


في أول سنوات حكم فيصل، لم تكن ثورة العشرين تُذكر إلا باعتبارها “حركة تمرد محلية”، كما وصفتها الوثائق البريطانية مرارًا (1).

لكن بعد تثبيت العرش، وتحقيق الاستقرار النسبي، تغيّرت اللغة فجأة:

أصبحت ثورة العشرين “ملحمة”، وأصبح الشيخ ضاري “رمزًا”، وأصبحت بغداد “شاركت في الثورة”، وأُعطيت المدارس توجيهًا بتدريس “الدور الوطني المتكامل في مقاومة الاحتلال” (2).


هذا الانقلاب في السرد لم يكن اعترافًا متأخرًا، بل حيلة سياسية لتبييض صورة الدولة الملكية، وكأنها ثمرة نضال مشترك، لا ثمرة خيانة منفردة.


التلفيق الرمزي: مساواة لا وجود لها


جرت في الخطاب الرسمي محاولات متكررة لـ:

• تصوير الثورة كتحالف بين العشائر الشيعية والسنية (رغم الغياب الفعلي للمكوّن السني).

• تعظيم دور شخصيات لم تُشارك في القتال، فقط لخلق توازن رمزي (مثل ضاري، والكيلاني، والعسكري).

• تهميش المرجعية التي أطلقت الفتوى، وعدم إدراج أسماء كبار المجاهدين من رجال الدين في الخطاب الرسمي أو النصب التذكارية (3).


سَرقة الرموز… وتهميش الفعل


تحوّل العلم العراقي الجديد إلى رمز يوضع فوق قبور القادة، دون أن يكون له علاقة بهم.

وصار الملك يُخاطب الناس باسم “الثوار”، رغم أن الثورة لم تُنجِبه، بل أسقطت مثله.

وبدأ الإعلام الرسمي يعرض “أغاني الثورة” في المناسبات، بينما أهالي الجنوب ما زالوا ينتظرون تعويضًا عن الحقول التي قُصفت.


الذاكرة… ضُبطت على مقاس الدولة


وهكذا، أصبح ما يُروى في المدارس ليس ما جرى، بل ما أراد النظام أن يتذكّره الناس:

ثورة بلا طائفة، بلا مرجعية، بلا عشائر، بلا فتاوى… فقط “نضال وطني عام” أنتج “ملكًا محبوبًا”، ودولة مستقلة، ونشيدًا وطنيًا.


بينما الواقع كان غير ذلك تمامًا:

من صعد إلى الحكم لم يكن من حمل السلاح، بل من كتب التقارير. ومن وُضعت صورته في الكتب، لم يكن من جُرحت قدماه في وحل الفرات.



الهوامش داخل المتن:


(1) India Office Records, CO 730/3, Reports on tribal unrest, July–Sept 1920.

(2) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 28–30.

(3) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية، جـ1، صـ 305–307.



الفصل العاشر: من التهميش إلى التأسيس – صعود الأقلية واستبعاد الأغلبية


حين أسّست بريطانيا الدولة العراقية الحديثة، لم تكن تبحث عن تمثيل، بل عن قابلية للحكم.

ولأن الذين قاتلوا الاحتلال في ثورة العشرين لم يكونوا أهل مساومة، ولا يقبلون التبعية، فقد تم استبعادهم بهدوء، وتمت هندسة الدولة لتُبنى على أكتاف الأقلية السنّية التي لم تكن جزءًا من المعركة… لكنها كانت مستعدة للجلوس إلى الطاولة.


الجيش من فوق، لا من الجبهة


تأسس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني 1921، أي قبل تنصيب فيصل نفسه.

ولم يكن هذا الجيش من أبناء العشائر الثائرة، ولا من شبّان الجنوب الذين حملوا السلاح ضد الإنكليز، بل من ضباط عثمانيين سابقين، معظمهم من بغداد والموصل وسامراء، أي من بيئة الدولة، لا بيئة الثورة (1).

• أول قائد للجيش: جعفر العسكري – لم يُعرف له دور في الثورة.

• أول وحدات الجيش كانت بقيادة ضباط تلقوا تعليمهم في إسطنبول، وبعضهم خدم مع البريطانيين ضد العثمانيين.

• لم تُفتح الكليات العسكرية أمام أبناء القرى، بل كانت حكرًا على النخب السنية المدنية والعسكرية.


وهكذا، تحوّل الجيش إلى مؤسسة فوقية، لا تعكس دم الثوار، بل تعيد إنتاج السلطة التي ثاروا ضدها.


الشيعة في الإدارة: بين التجميل والإقصاء


رغم أن الشيعة كانوا الأغلبية السكانية، ومَن فجّر الثورة، فإن حضورهم في الإدارة كان شكليًا.

تم تعيين وزراء شيعة لأغراض التوازن الظاهري، لكن دون صلاحيات حقيقية، وفي وزارات لا تمسّ الأمن أو السياسة الخارجية أو المؤسسة العسكرية (2).


وحين رُفعت شكاوى من الحوزة، أو من رجال الدين، أو من الزعامات القبلية، كان يُرد عليهم بأن “التمثيل موجود”، رغم أن الواقع يُكذّب ذلك في كل مفصل من مفاصل الدولة.


تأسيس دولة أقليّة… بقوة الغالب


هكذا، وُلدت الدولة العراقية الحديثة على مفارقة دامغة:

• من حارب الاحتلال خرج من الحكم.

• ومن لم يُطلق رصاصة، تسلّم الجيش والإدارة والديوان الملكي.


لقد فُصّلت الدولة على مقاس الأقلية لا لحجمها، بل لطواعيتها.

وكان فيصل يُدرك هذا جيدًا، لذلك كتب في إحدى رسائله:


“إن في العراق قلة مأمونة، وكثرة لا تؤمن جانبها. وهذه القلة هي التي يمكن الاعتماد عليها في الإدارة، وإن أزعجت الأكثريّة.” (3)


وهكذا تحوّل التهميش من لحظة سياسية مؤقتة، إلى بنية تأسيسية راسخة

بنية ستُعيد إنتاج الإقصاء، وتفتح الطريق لموجات قادمة من التمرّد… والثأر.



الهوامش داخل المتن:


(1) حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، جـ1، صـ 309–313.

(2) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، جـ1، صـ 33–34.

(3) من رسالة فيصل إلى المستشار البريطاني، منشورة في: فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق، صـ 81.



الخاتمة: الثورة التي صودرت، والدولة التي وُلدت من خارجها


كانت ثورة العشرين صيحة صدق في وجه إمبراطورية،

لكن الدولة التي تلتها لم تكن امتدادًا لها، بل نقيضها.


قاتل الفلاح الشيعي بفتوى المرجعية، وحمل بندقيته من قلب الجوع،

ثم جاء من لم يُطلق رصاصة، ليُصبح وزيرًا، وضابطًا، وناطقًا باسم “الوطن”.


استُبعدت العشائر، وقُمعت الحوزة، وهُمّش الجنوب،

وسُلّمت مفاتيح العراق لمن جلسوا في حضن البريطاني،

لا لمن دفنوا أبناءهم تحت سماء تُمطر قنابل.


ثم كُتبت الرواية الرسمية،

فأُضيف من لم يكن في الميدان،

وحُذف من مات على التراب.


وهكذا وُلد العراق الحديث:

لا دولة الثوار، بل دولة الخصوم.

لا دولة الشعب، بل دولة “القلة المأمونة”، كما سماها فيصل.

دولة خائفة من الأكثرية، مشككة في دمها، مرتابة من فتاواها، ناكرة لأمجادها.


وما زال هذا التأسيس يصرخ حتى اليوم…

فلم تخرج هذه البلاد من دوامة الدم،

لأنها بُنيت على جثة الثورة…

ولم تفتح عينيها إلا على الخيانة.



 
 
 

Comments


bottom of page